فصل: تفسير الآيات (105- 106):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآية رقم (103):

قال الله تعالى: {فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103)}.
يقول الله تعالى: فإذا فرغتم أيها المؤمنون من صلاتكم التي بينا لكم كيفيتها، فاذكروا الله قياما وقعودا ومضطجعين على جنوبكم، واذكروه معظمين خاشعين، سائليه النصر والظفر، فإنه الذي بيده النصر، وهو القادر على كل شيء، ومثل هذا في المعنى قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً}.
وقد طلب الله تعالى من عباده أن يذكروه دائما، والذكر أداة الفلاح، إذ هو وسيلة الخشية، ومتى وجدت الخشية وجدت الطاعة، واجتنبت المعصية، وذلك هو الفوز والسعادة.
روى ابن جرير عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً} أنه كان يقول: لا يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها جزاء معلوما، ثم عذر أهلها في حال غير الذكر، فإنّ الله لم يجعل له حدا ينتهي إليه. ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله، فقال: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ} بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال.
وقيل: إنّ معنى الآية: إن أردتم أداء الصلاة، واشتد الخوف إذا اشتبكتم في القتال، فصلوا كيفما كان. وهذا يوافق ما ذهب إليه الشافعيّ، رضي الله عنه من وجوب الصلاة حال المحاربة، وعدم جواز تأخيرها عن الوقت، وأنت ترى أنّ ذلك بعيد من لفظ {قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ}.
{فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ} أي أقمتم، وهو مقابل لقوله: {وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} سميت الإقامة طمأنينة لما فيها من السكون والاستقرار، ويصح أن يكون المراد فإذا أمنتم وزال عنكم الخوف الذي ترتب عليه قصر صفة الصلاة وهيئتها.
{فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أدوها على وجهها الذي كانت عليه قبل هذا، وأتموها، وعدّلوا أركانها، وراعوا شروطها، وحافظوا على حدودها.
وقيل: إنّ معنى ذلك فإذا اطمأننتم، وأمنتم في الجملة: فاقضوا ما صليتم في تلك الأحوال التي هي حال القلق والانزعاج، ونسب ذلك إلى الإمام الشافعي قال صاحب روح المعاني: وليست هذه النسبة صحيحة.
{إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً} فرضا محدودا بأوقات لا تجوز مجاوزتها، بل لابد من أدائها في أوقاتها سفرا وحضرا، وقيل: المعنى كانت عليهم أمرا مفروضا مقدّرا في الحضر بأربع ركعات، وفي السفر بركعتين، فلابدّ أن تؤدّى في كلّ وقت حسبما قدّر فيه، وقد ورد القرآن هكذا في توقيتها مجملا، ومرجع البيان فيه إلى السنة، فما ذكرت السنة أنه وقت وحد للصلاة وجب اتباعه.

.تفسير الآية رقم (104):

قال الله تعالى: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104)}.
بعد أن بيّن الله تعالى ما يجب أن يكون عليه المؤمنون في قتال عدوهم من أخذ الحذر أثناء الصلاة عاد إلى بعث المؤمنين على نحو آخر من المذهب الكلامي، وسوق الدعوى يحدوها الدليل.
{وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ} لا تضعفوا في قتالهم، ولا تتواكلوا، ولا يمنعكم منه ما يظن أن يصيبكم في قتال أعدائكم من ألم القتل والجرح، فإنّ ذلك أمر مشترك من شأنه أن يقع بكم، ويقع بأعدائكم ما دام لم ينثن أعداؤكم عن قتالكم، فما بالكم تخافونه دونهم.
{وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ} بل إنّ أعداءكم إذا جاز لهم أن يخافوا فهم حقيقون بأن يخافوا، فإنّهم لا حجة لهم في الإقدام على أمر هو مظنة هلاكهم، فإنّهم على الباطل، والباطل مهما مدّ الله له في الأجل فهو في النهاية مدفوع. بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه، ولم يعدهم الله بالنصر كما وعدكم، ولا ثمرة تعود عليهم من قتالهم هذا، فإنهم وإن تمّت لهم الغلبة أمامهم جهنم مفتحة الأبواب، عميقة الغور، أعدت للكافرين المعاندين لكم، وقد وعدكم نصره، وضمن لكم الجنة، وأنتم الفائزون في الحالين، وأنتم بما تعبدون الله وتوحدونه لا تشركون به شيئا، تطمعون في نصره ورحمته، وهم بما يعبدون من الأصنام، وما هم عليه من العناد: ليس عندهم مثل هذا الطمع، أليس يكفي هذا وحده باعثا لكم على القتال دونهم؟
{وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} لا يكلفكم شيئا إلا ما فيه صلاحكم في دينكم ودنياكم على مقتضى علمه وحكمته.

.تفسير الآيات (105- 106):

قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106)}.
روي في أسباب نزول الآية أخبار كثيرة، كلها متفقة على أنها نزلت في شأن رجل يقال له طعمة بن أبيرق، على خلاف فيما وقع منه، قال الفخر الرازي: إنّ طعمة سرق درعا، فلما طلبت الدرع منه رمى واحدا من اليهود بسرقتها، ولما اشتدت الخصومة بين قومه وبين قوم اليهودي جاء قوم طعمة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وطلبوا منه أن يعينهم على مقصودهم، وأن يلحق الخيانة باليهودي، فهمّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم بذلك فنزلت الآية.
وقيل: إنّ واحدا وضع عند طعمة درعا على سبيل الوديعة، ولم يكن هناك شاهد، فلما طلبها منه جحدها، وقيل: إنّ المودع لما طلب الوديعة زعم طعمة أن اليهودي سرق الدرع.
وقد قال العلماء: إنّ ذلك يدل على أن طعمة وقومه كانوا منافقين، وإلا لما طلبوا من الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يلحق السرقة باليهودي على سبيل التخرص والبهتان، انظر إلى قوله تعالى في الآيات التي بعد هذه {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ}.
وقد روي أن طعمة هرب بعد الحادثة إلى مكة وارتد، وسقط عليه حائط كان يثقبه للسرقة فمات.
{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ} أي بما أعلمك الله في كتابه، وأنزله إليك بوحيه، ويصح أن يكون المراد بما جعله الله رأيا لك، إما من طريق الوحي، أو الاجتهاد، وليس يلزم من تأويل الآية على العلم بطلان القياس، لأنّك قد عرفت أنّ القياس راجع إلى الكتاب والسنة، والعلم به عمل بأمر الله، وقد اختلف العلماء في أن النبي صلّى الله عليه وسلّم له أن يجتهد، أو ليس له ذلك، والمسألة لها موضع غير هذا في الأصول يجمع أدلة الطرفين.
غير أن الذي يلزم التنبيه إليه أن الذي يقول: إنه يجوز له الاجتهاد يقول: إنه يجوز عليه الخطأ، لكنّه لا يقرّ على الخطأ، ويستشهد بمثل الحادثة التي نحن بصددها، فإنه قد بيّن له الحكم، وبمثل ما حدث في أسارى بدر.
{وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً} الخائنون هو طعمة وقومه ومن يعنيه أمره منهم، واللام للتعليل، أي لا تكن لأجل الخائنين مخاصما لما يستعدونك عليه، وقيل: إنّ اللام بمعنى عن أي لا تكن مخاصما ومدافعا عنهم ضد البراءة {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ} مما هممت به في أمر طعمة وبراءته التي لم تتثبّت في شأنها، والأمر بالاستغفار في هذا وما ماثله لا يقدح في عصمة الأنبياء، لأنه لم يكن منه إلا الهم، والهم لا يوصف بأنه ذنب فضلا عن المعصية، بل إنّ ذلك من قبيل إن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وما أمره بالاستغفار إلا لزيادة الثواب، وإرشاده وإرشاد أمته إلى وجوب التثبت في القضاء، وقيل: إن المراد استغفر لأولئك الذين زعموا عندك براءة الخائن.
{إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً} يغفر لمن استغفره، ويرحم من استرحمه.

.تفسير الآية رقم (127):

قال الله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127)}.
الاستفتاء: طلب الإفتاء، والإفتاء: إظهار المشكل من الأحكام وتبينه، كأنّ المفتي لما بيّن المشكل قد قوّاه وصيّره فتيا.

.سبب النزول:

أخرج ابن جرير وابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت المواريث في سورة النساء شقّ ذلك على الناس وقالوا: أيرث الصغير الذي لا يعمل في المال ولا يقوم فيه، والمرأة التي هي كذلك، فيرثان كما يرث الرجل الذي يعمل في المال؟ فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السماء، فانتظروا، فلما رأوا أنه لا يأتي حدث، قالوا: لئن تمّ هذا إنه لواجب ما عنه بد. ثم قالوا: سلوا، فسألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزلت هذه الآية. وروي مثل ذلك عن ابن عباس ومجاهد.
وعن عائشة أنها نزلت في توفية الصداق لهن. وكانت اليتيمة تكون عند الرجل، فإذا كانت جميلة، ولها مال، تزوّج بها وأكل مالها، وإذا كانت دميمة منعها من الأزواج حتى تموت فيرثها. فأنزل الله هذه الآية.
معلوم أنّ الصحابة لم يطلبوا الإفتاء عن ذوات النساء، وإنما طلبوا الإفتاء عن حال من أحوالهن، وشيء يتعلّق بهن، فلابد من تقدير محذوف في الكلام، فبعض المفسرين قدّر ذلك المحذوف أمرا خاصا، وجعل سبب النزول قرينة على تعيين ذلك المحذوف المسئول عنه، فقال: المراد يستفتونك في ميراثهن، أو في توفية صداقهن، أو في نكاحهن.
واختار بعضهم التعميم في المسئول عنه، لأنّ سبب النزول لا يخصّص، ولأنّ تقدير العام أتمّ فائدة وأشمل، فقال: المراد يستفتونك فيما يجب لهن وعليهن مطلقا، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسأل عن أحكام كثيرة تتعلّق بالنساء.
وكذلك اختلفوا في المراد بما كتب لهنّ في قول الله تعالى: {اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ} فقيل: ما فرض لهن من الميراث، وقيل: من الصداق، وقيل: من النكاح، وقيل: ما يعم ذلك كله وغيره.
وقوله تعالى: {وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ} قد ذهب فيه المعربون مذاهب شتى، وأولى وجوه الإعراب أن تكون (ما) اسم موصول مبتدأ، والخبر محذوف، والتقدير: والذي يتلى عليكم في القرآن كذلك، أي يفتيكم فيهن أيضا. وذلك المتلو في الكتاب هو قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى} [النساء: 3] إلخ.
وحاصل المعنى: أنهم كانوا يسألون عن أحوال كثيرة من أحوال النساء، فما كان منها غير مبيّن الحكم قبل نزول هذه الآية ذكر أن الله يفتيهم فيه. وما كان منها مبيّن الحكم في الآيات المتقدمة أحالهم فيه إلى تلك الآيات المتقدمة وذكر أنها تفتيهم فيما عنه يسألون.
وقد جعل دلالة الكتاب على الأحكام إفتاء من الكتاب، ألا ترى أنه يقال في المجاز المشهور إن كتاب الله بيّن لنا هذا الحكم، وكما جاز هذا جاز أيضا أن يقال: كتاب الله أفتى بكذا.
وقوله تعالى: {فِي يَتامَى النِّساءِ} صلة {يُتْلى} أي يتلى عليكم في شأنهن.
والإضافة في يتامى النساء من إضافة الصفة للموصوف عند الكوفيين، والبصريون يمنعون ذلك، ويجعلون الإضافة هنا على معنى (من) أو (اللام) أي في اليتامى من النساء، أو في أولادهن اليتامى.
{وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} أي في أن تنكحوهن، أو عن أن تنكحوهن، فقد ورد في أخبار كثيرة أن أولياء اليتامى كانوا يرغبون فيهنّ إن كن جميلات، ويأكلون ما لهنّ وإلا كانوا يعضلونهن طمعا في ميراثهن.
وحذف الجار هنا لا يعدّ لبسا، بل إجمال، فكل من الحرفين مراد على سبيل البدل.
واحتج بعض الحنفية بقوله تعالى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} على أنه يجوز لغير الأب والجد تزويج الصغيرة، لأنّ الله ذكر الرغبة في نكاحها، فاقتضى جوازه.
والشافعية يقولون: إنّ الله ذكر في هذه الآية ما كانت تفعله الجاهلية على طريق الذم، فلا دلالة فيها على ذلك. على أنه لا يلزم من الرغبة في نكاحهن فعله في حال الصغر.
{وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ} عطف على يتامى النساء، وكانوا- كما علمت- لا يورثونهم كما لا يورثون النساء.
{وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ} أي قل الله يفتيكم إلخ ويأمركم أن تقوموا لليتامى بالقسط. أو هو معطوف على (يتامى النساء) والتقدير وما يتلى عليكم في يتامى النساء، وفي المستضعفين من الولدان، وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط.
{وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً} أي وما تفعلوه من خير يتعلّق بهؤلاء المذكورين أو بغيرهم فإنّ الله يجازيكم عليه ولا يضيع عنده منه شيء.